كانت قدماه تسيران بصعوبة..فى طريقه للعودة من عمله ذلك اليوم…
أحس بحزن عميق ينتابه…وذكريات تقاتل عقله فى عنف…ذكريات منذ أن ولد…ومنذ أن كان طفلا..إلى اليوم…حاول التغلب على ذكرياته..نفض رأسه وهو يسير فى الطريق وكأنه ينفض أفكاره وذكرياته بعيدا…لكنه رغما عنه انتصرت عليه الذكريات…وأخذت تهاجمه بكل قسوة وتحتل خلايا عقله لتصور له ماضيه كله فى شريط حزين أمام عينيه…
” محمد كبر وداخل على المدرسة..مش هتشوف هتدخله مدرسة ايه…”
” هندخله المدرسة الإبتدائى اللى جمبنا…تفرق ايه عن غيرها يعنى…”
” بس دول بيقولوا انها مابتعلمش كويس…والتلاميذ اللى فيها مش كويسين…”
” احنا هننقى…اهى كلها مدارس…فضينا من السيرة دى بقى مش ناقصة دوشة…”
كان ساعتها يقف خلف باب الغرفة يستمع إليهم وهو لايستوعب شيئا مما يقولون…كان طفلا لم يتخطى السادسة بعد..كل مافهمه أنه سيترك روضة الأطفال الضيقة التى كان يكرهها وسيذهب لمكان جديد واسع اسمه ( المدرسة ) أيا كان الخلاف بين أمه وأبيه على أى مدرسة تكون…
” تفرق ايه عن غيرها يعنى…” هكذا ردد كلمة ابيه فى عقله…كان دائما يرى تلاميذ المدرسة المجاورة له وهم يلعبون ويمرحون…ما الفارق بينها وبين أخرى…
……
توقف عند بائع اللحوم…ربما ستكون هذه أخر مرة يشترى فيها لحوم لعيد الأضحى..وضع يده فى جيبه و أخرج النقود القليلة الباقية من راتبه الأخير…نظر إليها شارداً قبل أن يخرج نصفها ويعطيها للجزار قائلا بصوت منخفض وكأنه يخشى أن يسمعه أحد:
” ربع كيلو لحمة بعد إذنك… “
” ربع…؟ “
” اه ربع كفاية بس عشان الولاد…كل سنة وأنت طيب…”
بينما ينتظر طلبه أخذت الذكريات تثور على عقله مرة أخرى…
” محمد داخل الثانوى…مش هتشوف هتديله دروس ايه…”
” بس بلا دروس بلا كلام فارغ…انتى عارفة الدروس بكام دلوقتى…وهو من امتى خد دروس من يوم مابدأ تعليم…هو هيعمل ايه يعنى..هيشتغل فى الاخر أى شغلانة والسلام ويعيش زى كل الناس ماعايشة…”
” طب مامادم احنا قادرين مانديله دروس…دول زمايله كلهم حجزوا …هيبقى هو لوحده فى وسط زمايله اللى مابيخدش دروس…”
” قلت بلا دروس بلا بتاع…احنا هنضيع شقانا وتعبنا على المدرسين عالفاضى وفى الأخر هيطلع ايه يعنى…دكتور..مش عايزك تفتحى سيرة الموضوع ده تانى…”
هذه المرة انسابت دمعة فى عينيه وهو يقف فى نفس مكانه خلف باب الحجرة ويستمع إلى أبيه وأمه…كان قد تخطى المرحلة الإعددية بجموع عالى أهله لدخول الثانوية العامة…لم يعتد أن يأخذ دروس خصوصية رغم أن زملائه كانوا يأخذون دائما دروس فى كل المواد…ورغم أنهم دائما كانوا يسألوه ويعايروه أحيانا لعدم وجوده معهم إلا أنه كان يغلق الباب فى وجه الحزن واليأس دائما ويسعى للتفوق…وفعلها..رغم إحباط أبيه الدائم له..لكنه لم يستسلم..لكن كيف ستكون الثانوية …..
……
سار بنفس الخطى المتثاقلة داخل السوق..وأخذ ينظر إلى أصناف الخضروات والفواكه الكثيرة…قبل أن يتوقف عند مكانه المعتاد ويخرج بعض نقوده القليلة..
” نص كيلو طماطم لو سمحت…وربع خيار…”
” طماطم من أم اتنين ولا اربعة ياحج…”
نظر مرة أخرى إلى نقوده القليلة قبل أن يقول بنفس الصوت الخافت:
” لأ بإتنين يابنتى بعد إذنك….”
سرح فيما حوله وهو يستسلم مجددا لسجن ذكرياته…
” ادى ابنك شرفك وجاب سبعة وتسعين فى المية … يعنى ممكن يخش صيدلة اللى هو عاوزها…”
” يعنى جاب الديب من ديله…وبعدين صيدلة ايه اللى بتكلمى فيها…انتى عايزانا نشحت عليه…”
” يعنى ايه…؟ أنت مش هتدخله صيدلة…هتكسر نفس الواد….”
” بلا نفس بلا بتاع…هما اللى دخلو الكليات عملو بيها ايه…انا مش هأصرف عليه لو دخل صيدلة دى…عايز يدخل كلية تبقى كلية على قد حالنا…خليه يخش تربية ولاتجارة…حاجة نظرى مافيهاش فلوس كتير…”
” بس حرام ده محمد ممتاز و…..”
” مافيش بس…ومش عايزك تفتحى الموضوع ده تانى ابدا…”
هذه المرة كاد يسقط من هول صدمته وهو يستمع إلى كلمات أبيه تدمر أحلامه العريضة…لماذا؟؟؟ لم يستوعب لماذا كتب عليه أن تتحطم أماله أمام عينيه…لقد انتصر على نفسه وأذهل زملائه بمجموع عالى دون الدروس التى عايروه بها…كان يحلم بذلك المجموع حتى يدخل كلية الصيدلة التى حلم بها…لكن الأن يسمع ويرى حلمه يتحطم بكلمة من لسان أبيه….
بكل قسوة…
……..
توقفت ذكرياته عند باب الصيدلية المجاورة لبيته…فخطا داخلها وهو ينظر بحزن اعتاد عليه كلما دخل إلى أى صيدلية…
” لو سمحت يادكتور…عايز اى دوا للبرد…عشان ابنى الصغير عنده برد من امبارح…”
” بس ياحج مش لازم يبقى عنده برد بالذات…المفروض تروح لدكتور أطفال ويكشف عليه ويديك روشتة الأول… “
” معلش يادكتور…احنا ناس على قد حالنا… والبرد ياما بييجى للولاد وبنجيبلهم دوا وبيروح….”
” أنا أسف ياحج…ماكانش قصدى والله…وثانية هأجيبلك دوا كويس….اتفضل…”
” شكرا يادكتور…كام …”
” سبعة جنيه بس ياحج أنا جبتلك أحسن دوا وسعره متهاود…”
حرك يده فى جيبه مرة أخرى..ابتسم عقله فى سخرية مريرة وهو يلاحظ أن يده تتحرك بحرية علامة على أن نقوده أصبحت قليلة…أخرج النقود وهو ينظر إليها ويفكر…لم يكن الطبيب يعرف وهو يقول سبعة جنيهات أن هذا الثمن ليس قليلا لبعض الناس…بل ربما سيكون مبلغ سيدفعه للإستدانة ليعيش أولاده حتى المرتب القادم….
” اتفضل يابنى…ألف شكر…”
قالها للطبيب الشاب وخطا خارج الصيدلية وهو يحمل أكياس الطعام البسيطة فى يديه…ووضع علبة الدواء فى أحدى الأكياس…وهو يتجه بخطواته المتاقلة إلى أخر محطة له…وأهم محطة قبل أن يصل إلى بيته….
…….
” مش عارفة محمد عمل ايه فى النتيجة …ده نتيجة ابن جارتنا طلعت….اشمعنى محمد…”
” هى كلية تجارة دايما بتتأخر…وبعدين مسربعة على ايه يعنى تفرق ايه…”
” تفرق كتير…خلى الواد يتخرج بقى ويشتغل…ويتجوز…عايزة افرح بيه بقى….”
” حوشى الشغل والجواز مقطع بعضه…اهو هيطلع يستنى جواب القوى العاملة زى الناس….ولما نشوفله عروسة من العيلة يبقى يجوزها…ويخدها ويبقو يقعدوا فى أى بيت إيجار..”
” أنت مش هتشوفله شغلانة فى أى حتة كده….لسه هيطلع يستنى جواب…. “
” وأنتى شايفانى وزير القوى العاملة ولا وزير الشباب…يطلع يستناله جواب القوى العاملة زى الناس…يعنى هتفرق ايه كام سنة كمان….”
دوت الكلمات فى رأسه فى قوة…وهو يتابع السير بنفس الخطوات البطيئة…وأخذت الذكريات تنسدل أمم عيناه….تذكر كيف نجح فى كلية التجارة بتقدير امتياز…تذكر كيف أنه لم يرشح كمعيد ورشح بدلا منه ابن أحد الأساتذة فى الجامعة…تذكر كيف انتظر وانتظر جواب القوى العاملة…تذكر كيف أتى الجواب بعد ثلاثة سنوات ليخبره بوظيفة فى أحد المصالح الحكومية البسيطة…تذكر كيف تزوج من قريبته…وأنجبا ولدا وبنتا يعانى الأن لإكمال تعليمهم رغم الظلام الذى كتب على مستقبلهم وأحلامهم…تذكر كيف ضاعت سنين العمر…توقف بذكرياته عند أخر مشهد فى مشاهد زكرياته اليوم…مشهده وهو يستلم جواب التحويل للمعاش…ونهاية المشوار…جواب أخبره بأنه انهى مهمته…ساعتها فكر ماذا فعل فى حياته؟ ماذا فعل ليغير مصيره؟ ماذا فعل ليقول لا لمن يدمر أحلامه وأمانيه أمام عينيه…ماذا فعل لمن أجبره أن يكون مثل باقى الناس.. .مطحون.. فقير… يعانى لينفق على زوجته وأولاده…استسلم…هذا كان مافعله….وهذا كان جوابه على نفسه وهى تلومه متأخرة جدا…فى نهاية المشوار وهو يستلم جواب المعاش…لكم كانت حياته ستتغير لو لم يستسلم…لو قاوم…لكى يصبح نفسه…لا أن يصبح انسان أخر بحياة حددها له غيره….ربما ساعتها كان من الممكن أن يفعل شئ فى حياته يفتخر به عند نهاية المطاف…ونهاية العمر…
” ياحج…أنت ياحج…أنت نايم ولاسرحان ولابتستهبل ولا ايه حكايتك…”
خرج من معتقل ذكرياته على الصوت…نظر إلي صاحب الصوت فى شرود…
” مالك يابنى….”
” أنت خليت فيها ابنى…طالع كده على أول الطابور وسايب الناس كلها واقفة…يعنى انت تعبان واحنا مش تعبانين…”
أفاق إلى المشهد حوله…مشهد طابور العيش…الطويل…محطته الأخيرة…وهو يقف فى أوله أمام النافذة…قادته ذكرياته دون أن يرى وذهب بالخطأ إلى أول الطابور…ابتسم فى مرارة
” معلش يابنى ماخدتش بالى…كنت ماشى سرحان.. اعذرنى…”
قالها وهو يتحرك بإستسلام.. بنفس الخطا المتثاقلة البطيئة..ليأخذ مكانه..هناك…
آخر الطابور…..