و ككل يوم مضى..لم تكن أبداً هناك..لكى تتأمل جمالها..أو تحلم أن تكون أجمل نساء الأرض…
كانت هناك..أمام المرآة..تحلم بمرآة أخرى..تنعكس فيها صورة قلبها..قلبها فقط…
*****
فى عملها..تمر الساعات ببطئ..كانت تؤدى عملها لكن عقلها لا يتوقف عن التفكير..بدون حب هى حياتها..مرت سنوات طويلة منذ شعر قلبها بالحب نحو شخص ما..هى أحبته..لكنه أبداً لم يحب فيها إلا جمالها..دمية جميلة كان يزهو بها أمام عائلته و أصدقائه..لكن مشاعرها..روحها..قلبها..هو أبداً لم يشعر بذلك..و لهذا رحلت..لهذا بنت أسواراً عالية..حول قلبها..تحميه من حب زائف….
*****
فى طريقها للعودة من عملها..تقرر السير للبيت.. “ما الفارق؟!” ..تبتسم فى حزن مع أفكارها ” ما جدوى أن أسرع فى العودة إلى بيت خاو؟! “
تمر بجوار البحر..تعبر الطريق..تختر أريكة خشبية قريبة من البحر و تجلس..
تتأمل أمواج البحر..دائماً ما ترى نفسها فى تلك الأمواج..فى تحطم أحلامها..على شاطئ من الواقع…
” عفواً, هل يمكننى الجلوس هنا؟ “
أيقظها السؤال المفاجئ من أحلامها لتنظر لمصدر الصوت..كان شاباً يقف على حافة الأريكه الخشبية..يرتدى نظارة للشمس تخفى عينيه تماماً..شعرت بالخوف للحظة مع فراغ الشارع من حولها لكن ما استطاعت رؤيته من ملامحه بدا لها مطمئنا فقالت فى تردد:
” أرى أن هناك الكثير من الأماكن الخالية هنا حولنا..لما لا تختر واحداً لك فقط؟ “
ابتسم و هو يجلس بجوارها قائلاً فى هدوء:
” هناك سببين لذلك..الأول أننى اعتدت على الجلوس على هذه الأريكة الخشبية كل يوم طوال عام مضى..و أنا أعشق الوفاء للأشياء الصغيرة..يمكنك اعتبارى مهووساً إذا أردتى لكن الحقيقة أننى اعيش قصة حب جميلة مع هذه الأريكة..ولا أعتقد أنكِ تودين ان تفرقى حبيبين عن بعضهما…”
غالبت ابتسامتها من الطريقة التى يصف بها قصة حبه بأريكة خشبية قديمة..فغيرت دفة الحديث متسائلة:
” و السبب الثانى؟ “
لم تفارقه ابتسامته و هو يجيب:
” السبب الثانى أننى لأول مرة منذ عام أقابل شخصاً ما هنا..إنه منتصف اليوم فى هذه البلدة الصغيرة و الكل عاد من عمله بالفعل..كنت أعتقد أننى المجنون الوحيد فى هذه البلدة..و الأن أصبحنا اثنان..”
كانت تحدق فيه بدهشة و هو يتحدث..ابتسامته كانت صادقة..كذلك كانت تبدوا كلماته..لكن ما تعلمته عن الرجال أن الكل سواء..يتمتعون بلبس الأقنعة..و الذهاب لصيد النساء كلما أتت الفرصة..” لابد أنه رآنى عبر الشارع و قرر أننى يمكن أن اكون…”
” أنتى لستى صيداً بالنسبة لى..لست هذا النوع من الرجال…”
فاجآها بجملته فهتفت فى دهشة:
” كيف عرفت…؟! ”
قاطعها فى هدوء قائلاً:
” كيف عرفت فى ماذا تفكرين؟ الأفكار مثل كل شئ فى الحياة يمكن ان نتعلمه..كلما قابلت أشخاصاً اكثر فى الحياة..كلما تعلمت مع الوقت كيف يفكرون..و كلما أصبح يمكنك قراءة ما يدور فى عقولهم..و بدلا من سماع الكلمات..يمكنك أن تفهم حتى صمتهم…”
توقف قليلاً قبل أن يضيف ضاحكاً:
” بالإضافة إلى أن المرأة لا تصمت بجانب رجل إلا إذا كانت تفكر فيما يخفيه لها أو تخطط فعلياً لقتله و يشغلها أى الوسائل ستكون أكثر رومانسية فى فعل ذلك! ”
ضحكت قائلة:
” ما كل هذه العنصرية..هى أنت أحد أعضاء جمعيات أعداء المرأة؟ ”
ضحك مجيباًً:
” بالطبع لا..انا بعيد كل البعد عن ذلك..أنا أحترم و أقدر المرأة..”
تابع مبتسماً و هو ينظر إليها:
” خاصة عندما تكون امرأة جميلة مثلك…”
ابتسمت مع عبارته الرقيقة قبل أن تتغير ملامحها فجأة..” جميلة ” تتذكر هى تلك الكلمة جيداً..تتذكر كيف قالها لها من كانت تحبه..فى المرة الأولى التى قابلها..لم تكن تفهم أنه لم يعنى بهذه الكلمة إلا معناها الحرفى..جميلة الوجه و الجسد..هذا هو ما اراده..و لا شك أن هذا ما يريده هذا الجالس بجوارها و….
” أنتى كثيرة التفكير..يجب أن تدفعى لى مقابل قراءة أفكارك! ”
أخرجتها ضحكته و عبارته مرة اخرى من أفكارها..فنظرت إليه للحظات قبل أن تقف قائلة فى توتر:
” آسفة, يجب أن أذهب ”
وقف بدوره هاتفاً:
” انتظرى, يجب أن أخبرك شيئاً…”
كانت تعدوا عبر الطريق دون توقف و جائها صوته من خلفها هاتفاً:
” انتظرى! ”
كانت قد وصلت إلى الجانب الأخر من الطريق و سمعت خطواته تتوقف فى منتصف الطريق فأدارت وجهها لتنظر إليه و هو ينظر إليها و قد تلاشت ابتسامته, غالبت حزنها و همت بمواصله طريقها قبل أن تلمح بطرف عينها تلك السيارة القادمة من بعيد..نظرت إليه و هى تشير بيدها له ليبتعد عن الطريق..لم يتحرك..تملكها الغضب من جنونه..هتفت به:
” عد إلى جانب الطريق ”
لم تكد تنهى عبارتها حتى وجدته يتوجه نحوها بدلاً من الإبتعاد إلى الجانب الأخر..نظرت لتجد السيارة تقترب بشكل خطير من جانب الطريق الذى يعدو عبره..صرخت فى قوة قبل أن تعدو بكل قوتها نحوه..فوجئ قائد السيارة بهما فضغط مكابح السيارة بقوة..كانت هى وصلت إلى حيث وقف مذهولاً مع صوت مكابح السيارة بجواره فقفزت نحوه لتبعده عن طريق السيارة ليسقطا معاً أرضاً..و تعبرهما السيارة بعد لحظة لتتوقف بجوارهما…و ما ان توقفت حتى تنفس قائدها الصعداء قبل أن ينزل من سيارته هاتفاً فى غضب:
” أى جنون هذا؟! هل أنت أعمى؟! ”
كان قد اعتدل من سقطته و جلست هى بجواره لاهثة و أخذت يداه تبحثان عن نظارته و هو يجيب:
” نعم..أنا كذلك..آسف لما سببته لك من قلق ”
حدقت فيه فى ذهول و هى تراقب يده التى تتحسس الأرض بلا جدوى بحثاً عن نظارته فى حين تمتم الرجل فى خجل وقد أدرك الموقف:
” أنا من يجب أنا أتأسف, هل أنتما بخير؟ يمكننى أنا أقلكما إلى المشفى إذا أردتما ”
توجهت يدها نحو نظارته الشمسية لتلتقطها و هى تجيب قائد السيارة:
” شكراً لك..أعتقد أننا بخير”
توجه الرجل ليستقل سيارته فيما وجهت يدها نحو يده لتوقفها عن البحث قائلة بإبتسامة:
” لقد وجدت نظارتك..لكنى أعتقد أنك تبدوا أجمل بدونها… ”
ابتسم و هو يعتدل واقفاً و يمسك بيدها لتقف بدورها و يخطوان سوياً نحو البحر مرة أخرى, فيما سألت:
” لكن مهلاً! كيف تأتى إلى تلك الأريكة وحيداً؟..و كيف عرفت أن احداً يجلس هنا…؟!”
ضحك و هو يتنفس نسيم البحر قبل ان يجيب:
“..منزلى قريب..و أعتمد على عدد الخطوات لأصل لهنا..”
كانت تنظر إليه فى إنبهار فأدار وجهه نحوها متابعاً:
” و عرفت أن أحداً ما هنا عن طريق الهواء..فكلما اقتربت من أريكتى المفضلة تلك كانت رائحة عطرك تقترب..فعرفت ان أحداً ما يجلس هنا..و فى الحقيقة كنت أفكر أول ما جلست ما الذى أتى بتلك الفضولية إلى هنا؟!أريد أن أبقى وحيداً! ”
ضحكت قائلة:
” اها..إذن كنت تود التخلص منى؟!”
ابتسم و هو يجيب:
” بالتأكيد, لكن ذلك كان قبل أن نتحدث..و أدرك مدى جمالك…”
ابتسمت فى خجل قبل أن تهتف و قد تذكرت شيئاً:
“مهلاً..كنت تريدنى أن أنتظر لتخبرنى شيئاً..هل لى أن اعرف ما هو؟ “
أجابها ضاحكاً:
” هناك شيئين..مرة اخرى! ”
ضحكت و هى تؤمئ قائلة:
” حسناً, الشئ الأول؟ ”
أجابها فى هدوء:
” عرفت حينما اخبرتك بأنك جميلة و قررتى المغادرة ما شعرتِ به..و لهذا أردت إخبارك أننى لا أستطيع الرؤية منذ عام..قابلت أشخاصاً كثيرة خلال هذا العام..لكن هذه هى المرة الأولى التى أشعر فيها أنى أرى شخصاً ما..أراه دون عينان..اليوم فى الدقائق القليلة التى التقيتك فيها..رأيتك..رأيت قلبك..و ما فى داخله..و كان ذلك أجمل ما يمكن أن يراه إنسان فى حياته…”
دمعت عيناها مع كلماته و صدقها..و ابتسمت من بين دموعها قائلة:
” ذلك اجمل ما سمعته فى حياتى…”
مرر يده اليسرى على شعرها بينما مسح بأصبع يمناه دموعها قائلاً فى حنان:
” لم تسألى ما الشئ الثانى هذه المرة؟ ”
لم تستطع الحديث من بين دموعها فأومأت برأسها فإبتسم و هو يمسح دموعها قائلاً:
” الشئ الثانى..أننى بعد أيام قليلة سأجرى عملية يفترض أن أرى بعدها..و أنا أريدك أن تكونى هناك..بجوارى..أريد أن تكون أول من أرى..أجمل إنسانة فى الكون…”
ابتسمت مرة أخرى وسط دموعها..صمتت لثوان ثم قالت:
” طوال عمرى كنت ابحث عن من يرانى..ولا يرانى..كنت أجلس أمام المرآة و اتمنى أن تكون خاوية..كنت أحلم بمرآة اخرى..أرى فيها قلبى..و مشاعرى..و اليوم..أصبحت انت لى هذه المرآة…”
أحاطت وجهه بيديها و هى تتأمل عينيه قائلة:
” سأكون بجوارك..دوماً..الأن و غدا و بعد غد..و أنت لا ترى و عندما ترى..سأكون بجوارك..لأننى أعرف أن عيناك سترانى دوماً..أعرف أن عيناك سترى ما بداخلى و تشعر بقلبى..أعرف أن عيناك ستكون دوماً..مرآتى…”